- تعتبر بيرسي وجهة سياحية جديدة يقصدها السياح من كل حدب وصوب
- المصدر: «الشرق الأوسط»
دعوة لزيارة قرية «بيرسي».. رئة باريس الجديدة
العاصمة الفرنسية ليست «الشانزليزيه» فقط
تعتبر بيرسي وجهة سياحية جديدة يقصدها السياح من كل حدب وصوب
المصدر: «الشرق الأوسط»
لعل الكثيرين من السياح العرب الذين يزورون العاصمة الفرنسية يتصورون أن باريس هي «الشانزليزيه» وبرج «إيفل» ومخازن «غاليري لافاييت». انها أماكن شهيرة بالفعل لكنها ليست سوى الخاتم الذي يزين خنصر هذه المدينة الساحرة. ولباريس أنامل أُخرى كثيرة تتوزع شرقاً وغرباً وتحتاج الى دليل ماهر يحمل في داخله خامة شاعر لكي يطوف بالزائر في الأماكن التي لا يرتادها إلا من عاش في المدينة وخبرها وتعرف على خفاياها.
لا بأس، إذن، من مفارقة "الشانزليزيه" لبضع ساعات والنزول، بمحاذاة نهر السين، الى الدائرة الثانية عشرة من باريس، وبالذات الى الحي السياحي الجديد، نسبياً، والمعروف باسم «بيرسي فيلاج». إنه ليس قرية حقيقية كما يدل عليه الاسم لكنه يشبه في مبانيه وطرقاته والشجيرات والقمريات التي تظلل شارعه الرئيسي، قرية من تلك التي كانت مسرحاً لفرسان القرون الوسطى.
أما المؤرخون الجدد فيؤكدون أن تاريخ الحي يعود الى 4500 سنة قبل الميلاد وإن باريس قد ولدت في هذه البقعة. والدليل على ذلك تلك القرية الأثرية العائدة للعصر الحجري التي تم اكتشافها أثناء عمليات تحديث الحي، عام 1990. وعثر الحفارون على لقى قيمة، منها ثلاثة زوارق خشبية نقلت الى المتحف وتشهد على وجود حياة بشرية في هذا المكان منذ أكثر من 6500 سنة.
كان هذا الحي، في الأصل، مخازن للغلال واسطبلات مهجورة تتوسطها سكة حديدية للقاطرات القديمة وعربات الترامواي. وحتى عام 1860 ظلت «بيرسي» بلدة مستقلة عن باريس، ولهذا السبب كانت مقصد المتحررين من سكان العاصمة والباحثين عن أماكن للهو، خارج أسوار باريس، لا تقع عليها أعين الرقباء. ولعل ذلك الماضي هو الذي طبع المنطقة بطابعه وجعلها، على مر السنوات، مكاناً للنزهة وإقامة الاحتفالات ودوائر الرقص. كما أصبحت موعداً مفضلاً لتجار اللحوم المقددة والأجبان والأنبذة والمأكولات الجاهزة بحيث سماها الناس «بيت مؤونة العالم». وكانت كل تلك البضائع تنقل اليها بزوارق الشحن المسطحة الآتية، عبر النهر، من مناطق فرنسا البعيدة.
وشيئاً فشيئاً بدأ التجار بتشييد مخازن لتكديس براميل المشروبات في «بيرسي». ولهذا كان العامة يطلقون على الاسراف في الشراب تسمية «حمى بيرسي». وللسبب نفسه أحاطوها بأسوار حديدية عالية حماية لها من «هجمات العطاشى». أما الوكيل الذي كان يتفاوض لبيع البضائع الموجودة في القرية الى دكاكين العاصمة، فقد كان مجبراً على العمل في السرّ لأن مخازن «بيرسي» لم تكن مكاناً مفتوحاً للعامة. وقد دامت تلك الحال حتى ستينات القرن الماضي.
ثم أعلن مزارعو الكروم في المدن البعيدة، مثل بوردو، تمردهم على عمليات البيع الجارية في القرية. وبدل البيع بالبراميل استنبطوا طريقة التعبئة المحلية في القناني. وأدى ذلك الى ثورة في اسلوب البيع قضت على الوكلاء السريين. وفي الوقت نفسه راحت مناطق شرق باريس تنتعش وتتوسع لتصل الى مخازن «بيرسي» المقفلة التي عفى عليها الزمان. وظهرت في الحي مبان سكنية ومكاتب ومصانع للسكّر من البنجر. وما عاد من المناسب الإبقاء على المخازن المهجورة في منطقة ارتفعت أسعار الأراضي فيها.
في عام 1979، جرى افتتاح صالة هائلة للعروض الموسيقية والرياضية في «بيرسي». وكان هذا المشروع إيذاناً بتغير شامل في شرق باريس. وسرعان ما انتقلت وزارة الاقتصاد والخزانة الى مبنى حداثي رائع في المنطقة، يطل على «السين» وتمتد شرفاته فوق أعمدة مغروسة في النهر. وكان وزير الاقتصاد، آنذاك، نيكولا ساركوزي، يصل من بيته في ضاحية «نويي» الى مقر عمله بزورق سريع يقطع العاصمة من غربها الى شرقها، وبذلك يختصر الى الربع الوقت الذي كان سيمضيه وسط زحام باريس. ثم انتقلت الى الموقع المكتبة الوطنية الجديدة ودشنت مبناها الفخم الذي جرى تصميمه على هيئة أربعة كتب مفتوحة ومتقابلة. وتبعها هدم كل العمارات البشعة والمتداعية التي كانت تحيط بموقع المكتبة وتشييد عمارات سكنية راقية، ذات حدائق في الشرفات وفوق السطوح، وعرضت للبيع عبر وسيط في الولايات المتحدة الأميركية. وكان العديد من أثرياء نيويورك ونجوم هوليوود بين المالكين الجدد لهذه الشقق لأن الأميركيين يحبون السكن في المساحات الفارهة.
وفي ظرف ثلاث سنوات، تهافتت الفنادق السياحية وقاعات المؤتمرات وصالات العرض الفني والمقاهي الشبابية على "بيرسي"، كما جاءت اليها المجمعات السينمائية المؤلفة من عشرات الصالات الصغيرة، وجرى تطوير الحدائق العامة المحيطة بالقرية، وافتتح جسران يربطان بين ضفتي النهر، أحدهما ذو طابقين، مخصص للمشاة، ويحمل اسم الكاتبة النسوية والفيلسوفة الراحلة سيمون دو بوفوار.
هل أُزيلت المخازن القديمة من مكانها؟ الحقيقة أن الرأي كان يشير الى ذلك، لكن خطرت في بال القائمين على مشروع تطوير الشرق الباريسي فكرة تحويلها الى دكاكين ومطاعم متخصصة بكل ما هو بيولوجي ويلتزم بالحفاظ على البيئة. ولهذا يجد السائح في "بيرسي فيلاج" مخازن لبيع زيت الزيتون، مثلاً، وكل ما يستخلص منه من صوابين ودهون للشعر والبشرة ومأكولات صحية. وهناك دكان مخصص لتصنيع الشوكولاتة وفق الطرق الريفية واليدوية القديمة، وآخر لكل المستحضرات الطبيعية للعناية بالجسم، من الات للتدليك وموسيقى مهدئة وألبسة حرارية وكتب عن وسائل الراحة النفسية.
وما بين حضور فيلم سينمائي والفرجة على أحد عروض مسرح الشارع أو تناول وجبة صحية والتجول في القرية وفي البارك القريب الذي روعي في تصميمه أن يشبه الأدغال البدائية، يمضي النهار سريعاً بالزائر وينسى كل ما يثقل على أعصابه من زحام باريس وضجيج سياراتها. فهل جرّب السائح العربي أن "يسيح" باسلوب مختلف عما اعتاده؟ وهل يضحّي بدولة «الشانزليزيه» لكي يرتاد قرية كل ما فيها يجمع بين الشكل التراثي والمضمون المعاصر؟
وان شاء الله نحطها في اليال
ولاتحرمينا من مواضيعك