- فيينا – إبراهيم صلاح الحياة - 18/07/05//
- عنصرية؟
فيينا – إبراهيم صلاح الحياة - 18/07/05//
الحياة في فيينا بقيت على ما هي عليه صبيحة اليوم الذي تلا تفجيرات أنفاق المترو اللندنية. والشباب، منذ صباح الجمعة الباكر، يدورون على دراجاتهم حول حديقة «ستاد بارك»، التي لا يزال تمثال شتراوس الذهبي- واضعاً ذقنه على طرف كمانه- يتوسّطها منذ ما يقارب مئتي عام.
اليوم، تمطر على شتراوس و الحرارة في المدينة لا تتجاوز ال13 درجة مئوية. لكنّهم على الدراجات، تحت المطر، وقد يتوقفون قليلاً لالتقاط أنفاسهم، على منصة الطريق تحت خيمة محل البيتزا المكتظ. وقد تسمعهم، في انتظار تحوّل «الزخّ» رذاذاً لطيفاً، يتمتمون بترنيمات «الدانوب الأزرق».
عنصرية؟
يفضّل الشباب النمسوي العرق الأبيض. البشرة الفاتحة والعيون الملوّنة. عنصرية؟ كيف يتهم بالعنصرية من نفذت إلى مسامات جلده، منذ الصغر، معزوفات موتزارت وبيتهوفن وشوبان. من في تاريخه الحديث شخصية مثل غوستاف مولان، اليهودي الذي لم يمانع في تنفيذ شرط الإمبراطور وتغيير ديانته كي يتمكّن من إدارة «بيت الموسيقى». يومها قال للممتعضين:» الموسيقى روح وجمال ومحبة وتسامح... والدين كذلك». لكن ديانا، الإنكليزية التي تعيش في النمسا منذ ثلاثين عاماً وتعمل اليوم دليلاً سياحياً، تقول إنّ الشباب النمسوي انقلب على موسيقى أجداده: «إنهم يفضلون موسيقى الروك على مقطوعات بيتهوفن... تماماً كما يفضلون البيتزا على فطائر الشترودل المحلاة، المحشوة بالمشمش أو الكرز أو التفاح والغارقة في سائل الفانيليا الساخن». لا أحد يأبه للمشمش إذاً؟ «ليس تماماً، لا يمكنك الجزم بشيء في هذه المدينة، إنها مدينة قائمة على تركيبة هائلة من التناقضات». تتحدّث ديانا، زوجة والتر النمسوي الذي جال في مدن العرب لأكثر من عشرين عاماً صوّرها في كتب خطّت بالألمانية والانكليزية والفرنسية. وهو يتنقّل بمعطفه الأنيق الذي يليق بكاتب رصين، يحتفظ طوال الوقت برصاصة في جيبه دخلت إلى جسده في يوم من أيام بيروت العام 1983... تتحدّث عن سطوة هائلة لا تزال تمارسها الكنيسة الكاثوليكية على فئة من الشباب في المدينة، وفي الوقت نفسه عن ارتفاع معدّلات الطلاق الى 2 من بين كل ثلاثة متزوجين، وهو الأمر الذي يخالف التعاليم السائدة. تقول إن فئة كبيرة من الشباب النمسوي لا تزال متحفّظة تسير على خطى التقاليد والموروثات. لكن في الوقت عينه، تشهد شوارع المدينة كلّ عام أضخم مسيرات مثليي الجنس في أوروبا: «لا أستطيع أن أفهم هذه التناقضات، اليوم، إن دخلت مكتب هيئة السياحة الوطنية، سيعطونك دليلاً مطبوعاً يحوي أمكنة وأنشطة المثليين في المدينة. إنهم فخورون بذلك، ويريدون ترويج المدينة كوجهة أساسية في هذا المجال. هذا مقرف».
لا يروق الوصف الأخير لكاتي، ابنة ديانا، التي لا تتجاوز الخامسة والعشرين من العمر والتي تعيش مع صديقها: «يجب أن تعترفي بأنك من جيل آخر، فيينا ليست المدينة التي وطأتها قدماك لأول مرة منذ عقود حين أتيت من بلدتك الصغيرة في مقاطعة يوكشا الشمالية في إنكلترا»!
يعمل كريستيان ثلاثة أيام من الأسبوع في ناد ليلي. نمسوي من أصول ألمانية ويضع قرطاً في أذنه. يقول إنّ لا مشكلة لديه مع الأعراق الأخرى، فهو يحب أن يزور دبي ويعرف أنّ لبنان «يقع إلى جانب إسرائيل... أليس كذلك؟» كما أنه صادق مصرياً ذات يوم، لكن في المقابل لديه الكثير مما قد يدرجه على لائحة «لا أحب»: الأتراك كثيرون هنا، أكثر من الضرورة. المزعج في الأمر أن بعضهم يوقفني في الشارع ويؤنبني إن قبّلت صديقتي. أقول لهم أنتم في فيينا، وهذا نمط حياتنا وإن لم يعجبكم الأمر فلترحلوا». المغاربة أيضاً، بائعو الزهور المصريون، وبالطبع أصحاب الذقون والعباءات السود... بعض الأمور التي قد تصادفها أيضاً على لائحة كريستيان. الأطرف على هذا اللائحة، بعيداً من روائح الجهل بالأمور والانسياق إلى مكرّسات خاطئة، هو ذلك الخلط لدى بعضهم بين «أوستريا» (النمسا) وأوستراليا: «في تايلاند سألني أحدهم من أين أنت. قلت بفخر من أوستريا. قال: نعم، أحب أوستراليا كثيراً، وسبق لي أن زرتها أكثر من مرة... هذا الأمر يثير حفيظتي كثيراً، لقد كنّا امبراطورية حكمت دولاً، ثم يأتي هذا السؤال الذي يدفعني الى الجنون»، يقول كريستيان مذكّراً، بتشابه لافت وغريب، بأزمة بطلة باولو كويلو فيرونيكا في كتابه «فيرونيكا تقرر أن تموت»، التي أرادت الانتحار لأن صحافياً بدأ مقالة، كتبها عن بلدها، بعبارة: «أين تقع سلوفينيا؟».
في فيينا، تمتلئ المكتبات ومحلات الهدايا بقمصان صفر كتب عليها: «نحن من أوستريا وليس لدينا كينغارو!».
وتقول يسرا إنها انفصلت عن صديقها لأنها اكتشفت أنه في حاجة إلى أن يستأذن أمه إذا رغب في فتح برادها، أو حتى المجيء لزيارتها: «أنا نمسوية، وأمي جزائرية. لكن لا يمكنني أن أتخلى عن عاداتي العربية. حميمية الأسرة ودفء العلاقة بين الأهل والأبناء أشياء تجري في دمي وتجعله عربياً». لكنّها تترك التفاصيل جانباً وتذهب إلى الجوهر: «كدنا نتزوّج، لكنني قلت في اللحظة الأخيرة لا أريد زوجاً يحترم فقط ثقافتي العربية. أريده أن يتحمّس لها، تكون لديه الرغبة في السؤال والفضول للاكتشاف. يقبل، يرفض، يناقش ولا يتمدد على الكنبة فقط مدّعياً انه بهذه الطريقة يحترم ثقافتي». تعمل يسرا في مجال المبيعات في أحد الفنادق الفخمة في فيينا. تقول إنها ستنتقل إلى دبي للعيش والعمل خلال الأيام المقبلة: «دبي مدينة مريحة بالنسبة الي. هناك البيئة العربية وفي الوقت نفسه الحدود المفتوحة لتقبّل العقليات والثقافات كلها».
في الانتظار، تجلس على كرسيّها في نادي «سكاي كلوب»، تراقب باهتمام واضح المغني جانكيز، أو «جنكي» كما يفضل الأصدقاء مناداته. تهتف: «الآن سيغني أغنيتي المفضلة». يتحدّر جنكيز من أصول تركية وألمانية. يقول إنّه يحب فيينا لأنها مدينة التناقضات. يجول بين الزبائن ويغني فيما يمشي. على أنغام الجاز، يصدح بالكلمات كأنه يقولها. بسهولة وسلاسة تامتين، يرنّم باللغات الألمانية والانكليزية: «إنهم لطفاء ويتمايلون على أغانيّ، وأنا أحبّ ذلك».
«إذا سألت أسامة بن لادن عن فيينا، سيقول لك أين تقع، أو لماذا فيينا، أنا لا آبه لها»، يقول روبرت الشاب النمسوي الفخور بحيادية بلده وسلميته: «علمنا الوطني شعاره زهرة. وفي فيينا نقول: «فلاوير مينز باوير»، أي أن قوّتنا من سلامنا... لقد أنهكنا التاريخ وشيّدنا قصوراً في كل مكان، لكننا اليوم نريد، اقصد جيلنا، أن نتعايش بسلام مع الآخرين. أن تكون فيينا مدينة رائعة تصدح فيها أنغام الموسيقى وتفوح منها رائحة الشوكولا».
على نهر «الدانوب القديم» (أولد دانوب) يتمشّى روبرت مع صديقته الألمانية. تتركه وتركض باتجاه غصن شجرة متدلٍ. تعود إليه بشيء تخفيه بين أناملها. ثمرة مشمش ناضجة يوشّحها لون أحمر في وسط اللون البرتقالي الذهبي. الشمس في فيينا مشرقة هذا الصباح، وثمّة من يبيع الورود في مترو الأنفاق الذي لا تحتاج إلى تذكرة لكي تدخله: «لا نتعامل مع الأمور بصرامة هنا»، تقول الفتاة الجالسة على المقعد تنتظر قدوم المترو.
لكنّ للشاب غيث قصة أخرى في فيينا: «أدرس في تشيخيا وأتيت مرة الى هنا لزيارة صديق كان يدرس معي في الجامعة في براغ. ليلاً، اصطحبني في سيارة الى منطقة نائية ومظلمة. كان من المفترض أن يوصلني مع مجموعة من اصدقائه الى محطّة القطار. أوقف السيارة واخرج سكيناً، وقال: سأدفنك هنا، مع كل عربي أصادفه، في حفرة عميقة وأتمشّى فوقك كلّ يوم».
يغنّي جنكيز بالألمانية ما معناه: «السماء تتسع لركوب الدرّاجة وفطيرة التفاح شهية في فيينا»!
مهما قيل واشيع عن النمسا بمثل هكذا حوادث فانها تظل الوجهة الأكثر امانا في اوربا
تحياتي لك ومشكور على جهودك الكبيرة