- بيستوم حيث ينبع التاريخ إلى الطرف الغربي من «الجزمة» الإيطالية
- الجبنة الشهية تستدرج السائح
بيستوم حيث ينبع التاريخ إلى الطرف الغربي من «الجزمة» الإيطالية
الجبنة الشهية تستدرج السائح
في زاوية بين السماء والبحر ترتاح بلدة بيستوم الريفية في سهل منبسط عند سفح هضبة تمتد حتى شاطئ البحر، عند الطرف الغربي من «الجزمة» الايطالية، والبعيدة حوالي 50 كيلومترا عن مدينة ساليرنو في الجنوب الايطالي.
الهدوء هو السمة الاولى لهذه البلدة الغارقة في نداوة خضراء عند ضفاف نهر سيل، قوامها بساتين الليمون التي تغوي العابرين بقطف الثمار من الاشجار. اما الزيتون الذي يزين معظم الحدائق عند مداخل البيوت والشاليهات، فحبيباته تتدلى من اغصانها وكأنها تنادي الايدي الى قطفها لتمنحهم مذاقها اللذيذ من دون وسائل التحلية المعهودة في بلادنا.
السمة الثانية، هي طغيان الطابع المحلي لجنوب ايطاليا، الى درجة يشعر زائرها بجذور الثقافة الشعبية الطالعة من الشوارع والاحياء التي على رحابتها، تحتفظ بخصوصية حادة وكأنها تمنح هذا الزائر متعة السياحة من دون ان تسمح له بتجاوز الخطوط الحمر لحميمية الاهالي واختراق حرمة المكان. والسبب يعود الى فترات طويلة من الانعزال التي كان يعيشها السكان الاصليون بسبب صعاب في التحرك نتيجة الطبيعة الجبلية الوعرة التي تحيط بهم وتعيق تنقلاتهم قبل شق الطرق وتطور وسائل النقل، وبالتالي لم تكتشف سياحيا قبل عام 1900، مع ارتفاع وتيرة الاهتمام لدى الحكومة الايطالية بالمخزون السياحي الكامن في المنطقة.
وبالنسبة الى عدد كبير من السائحين يشكل هذا التزاوج بين الانفتاح والتحفظ تناقضا يعبق بعراقة الماضي البسيط وصلابة التقاليد، التي تعود الى قرون عديدة في الاجواء الريفية التي تذكرنا بمشاهد الافلام الكلاسيكية. وفي حين لا تتميز بيستوم بأبنيتها ذات الطابع الروماني أو بالدور والقصور التي نصادفها في توسكانا او فلورنسا أو غيرهما من المدن الايطالية النموذجية، لكنها بالتأكيد تمنح بأبنيتها الافقية بين المساحات الخضراء الشاسعة، الرحلة الاكثر تميزا وامتاعا للراغبين بالراحة والاسترخاء بعيدا عن اعباء الحياة وضجيج المدن. فالشوارع الصغيرة التي تتغلغل بين البساتين وتحضن البيوت والفنادق والشاليهات، تساعد على العزلة والهدوء. والامر قد لا يطيب للشباب للوهلة الاولى، لكن ما ان يعلموا أن وسائل التسلية الترفيهية والرياضية متوفرة حتى يتحمسوا ليجمعوا بين متعة الطبيعة الغنية والقدرة على ممارسة الرياضات الشبابية في بيئة نظيفة. ولمحبي السباحة متعة تنقلهم من الطرف الاوروبي الى أجواء استوائية من دون وطأة الحرارة الخانقة.
ولعل هذه المعطيات تشكل حافزا جديا لاختيار احد شاليهات بيستوم مقرا لعطلة عائلية بعيدا عن التكلف والتكاليف الكبيرة. فالفرص متاحة ابتداء من اربعين دولارا لليلة الواحدة للغرف التي لا يضيرها تسهيل الاقامة مقابل بدل زهيد، ووصولا الى الرفاهية بحدها الاقصى مع كل ما توفره من خدمات تجعل الاقامة ذكرى لا تنسى. والاهم أن فنادق بيستوم وشققها وشاليهاتها متوفرة للحجز على مدار السنة، ووفق تقديمات تسهيلية تناسب رجال الاعمال كما تناسب الراغبين بقضاء عطلة خالية من الهموم. ولعل الموروث التاريخي يلعب دوره في هذا الاطار. فالبلدة المحصنة طبيعيا بمرتفعات كاباسيو، لتشكل ثغرا يصد اصحاب المطامع، شهدت في القرن السادس قبل الميلاد الغزو اليوناني الاول لأراض رومانية. تدل على هذا الغزو مدينة «بوسيدونيا» الاثرية والنموذجية، التي لا تزال تحافظ على طابعها وقيمتها كمعلم حضاري متكامل، والتي قامت على انقاض مجتمع مدني ربما هو الاقدم في تلك المنطقة. وبعد تركيز قوة دفاعية قرب البحر، بنى الاغريق «بوسيدونيا» تكريما لآلهة البحر وزينوها بمعبد «هيرايون» الى الشمال قرب نهر سيل، ليس فقط للصلاة، انما للمحافظة على استراتيجية دفاعية بمواجهة «العدو» المقيم على الضفة الأخرى من النهر، الذي يشكل خطرا مباشرا. وهذا المعبد تحول صرحا فريدا في العالم اليوناني القديم. وتقول الاسطورة ان بناء «هيرايون» تولاه البطل جايسون ورفاقه. وذلك نظرا لموقعها المفتوح على جهات الدنيا ودروب التواصل وينابيع المياه العذبة وخصوبة التربة. وأحيطت «بوسيدونيا» بسور منيع لا يزال ماثلا الى يومنا هذا بمناعته وأبوابه الاربعة الموزعة على زوايا المربع الذي يشكله، ويتميز ببعض اللمسات الفنية من نحت يعود الى الحقبة الكلاسيكية التي تعكس ثقافة غنية متوجة بثلاثة هياكل لا مثيل لها ولأعمدتها في عالم الاثار اليوناني وحضارته الواسعة. فالهندسة التي أرستها هذه الهياكل تعتبر من أرقى الفنون وأكثرها دلالة على الكمال من حيث التشابه والمسافات المدروسة وكأنها تترجم فكر افلاطون عن عالم المثل. ولعل اعتماد هذه الهندسة في العمارة الاوروبية الحديثة وفي نقلها الى الولايات المتحدة، حيث اتخذت اسلوبا للبناء العريق. وفي معرض حمل اسم «من اميركا الى ايطاليا»، خصص جناح للاعتراف بمصدر الجماليات الهندسية تحت عنوان «كنوز بيستوم».
والبيوت التي تحيط بالهياكل تلتزم هندستها من حيث الترتيب والانضباط، لتمنح زائرها صورة عن حضارة قامت في هذا المكان، فاغتنت بفضل الاهتمام الروماني بعد قيام الامبراطورية. كذلك عرفت وضعا خاصا في زمن ملوك القرون الوسطى. ويحكى أن أكبر الحملات الصليبية باتجاه الشرق انطلقت من شواطئها. وتشير الآثار التي تركها من تعاقب عليها الى مدى أهميتها الاستراتيجية، التي تذكر بشكل أو بآخر، بما عرفته بيروت على امتداد الحقبات. وفي المرحلة النيو كلاسيكية حولت هذه البلدة الى مقصد لكبار الكتاب والمفكرين والشعراء، ومنهم غوتيه وشيللي وكانوفا وبيرانيز وغيرهم. ولمحبي التاريخ يقدم المتحف الوطني في البلدة، ما يشبع فضولهم ويقودهم في دهاليز الحضارات وصولا الى المرحلة الراهنة بأسلوب حديث ومريح.
وتقدم بساتين البلدة فرصة جيدة للشباب من خلال السياحة الزراعية، فالعمل في المواسم يمنحهم مدخولا ماليا، اضافة الى جولات على معالم المكان، ولا بأس برحلات الى القرى والمدن المجاورة، التي لا تقل سحرا بمقوماتها، ما يرفع منسوب الفائدة المرجوة.
لكن خصوصية بيستوم لا تقتصر على الطبيعة والتاريخ. فالمطبخ الايطالي المميز عالميا يستورد بعض طيباته، وتحديدا جبنة Mozzarella di bufala اللذيدة والشهيرة، التي يمكن شراؤها من المزرعة التي تعود غالبا الى أكثر من قرن، حيث تشكل هذه النزهة الريفية احدى ميزات السياحة. وباستطاعة السائح ان يجول في ارجاء المزرعة ويشاهد الجواميس «البوفالا»، ثم يراقب عن كثب معامل صناعة الجبنة ويتذوق انواعا منها لا تخطر في البال، ناهيك عن اللحم الطازج والمقدد.
كل الملذات الطبيعية والمأكولات الشهية تزود بها بيستوم زائرها. واذا اراد ان يجرب أحد مطاعمها، فسيحظى بأطباق من الباستا بوصفات يصعب احصاؤها، اضافة الى السمك بأنواعه، لينتهي باللحم وشرائحه بصلصات لا يجيدها الا طهاة هذا المكان. ولا تتوقف الشهية عند هذا الحد، فالحديث عن الحلوى له اشجان يسيل لها اللعاب. والغريب أن من ينعم بهذه الوجبات يكتشف أن وزنه لم يتغير. ربما اذا اقتصرت الزيارة على ايام لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة، استطيع التأكيد، لكن اذا طابت الاقامة، فأنا لا أضمن الكيلوغرامات التي ستطرأ بفعل الاقبال على الطيبات التي تصعب مقاومتها.
هذه هي بيستوم، بلدة متواضعة، لكن اسرارها المتوارية في شوارعها الفرعية كفيلة بتسجيلها في الذاكرة.
جريدة الشرق الاوسط