- خيمة تراثية تقدم القهوة للزوّار في مركز تجاري في دبي.
خيمة تراثية تقدم القهوة للزوّار في مركز تجاري في دبي.
راقص «التنورة» على المسرح مستلب إلى عوالم أخرى. ليس حيّزا ضيّقاً المكان الذي يدور فيه على نفسه، وتدور حوله الموسيقى الصوفية منسابة كخيوط حرير تصنع شرنقتها، ليس قلعة قديمة أو صالة مسرح عريق، إنها مساحة في مركز تسوّق في دبي.
الراقص الصوفي يبهر حاملي كاميرات الديجيتال في «الشوبينغ مول». و «من حضر السوق باع واشترى.. وتسلّى»... تلك مقولة «تراثية» تليق بزمن كان فيه السوق مفتوحاً على كل شيء. على السماء أولاً، ثم فضاء البيع والشراء، وأيضا تداول الشعر والأمثال والحكايا. في دبي، قليلة هي الأسواق المفتوحة على السماء، مباشرة، وهي حين توجد فهي تتخذ لقب «الشعبي» أحياناً، وأحياناً أخرى «أسواق الفقراء» أو حتى «سوق الهنود». الأسواق «الجماهيرية» موجودة داخل مراكز التسوّق. أو لعلّها هي مراكز التسوّق ذاتها. تلك المباني الضخمة التي يضج بها هدير يصدّره آلاف من المتنقلين بحركة دؤوبة على السلالم الكهربائية وفي الممرات. المكيّفات تصنع من تلك التجمّعات الاستهلاكية حيّزاً مناسباً لقضاء وقت في «العراء»... الافتراضي. «ذاهبون إلى السوق» يقول الناس هنا، ويقصدون «مراكز التسوق» أو ال «شوبينغ مول»!
ولأنه سوق، ويجب أن» يسلّي»، دأبت مراكز التسوّق على تشكيل هيئة لطيفة لصورتها في عيون الزائرين. ركّز المسؤولون عن التسويق في تلك المراكز التجارية على ما يعرف بسياسة منح المستهلك «التجربة المتكاملة»، وهو تعبير أكثر حداثة وعصرنة للمقولة التراثية أعلاه. ويعني هذا، وضمن أدوات التسويق أيضاً، إحلال «البهجة» في نفس المستهلك وجعله مرتاحاً «لمزيد من الإنفاق». «تسوّق معنا بسعادة عارمة»، هذا هو شعار أحد المراكز الرئيسة في المدينة.
وتستوجب التعددية الثقافية التي تعيشها دبي حيث الخليط الواسع من الجنسيات والأعراق والاهتمامات، أن يكون الترفيه المنتقى قادراً على مخاطبة أكبر شريحة ممكنة من روّاد المركز، دفعة واحدة. وغالباً ما يتم اختيار العروض الراقصة التي تعبّر عن ثقافات فرعية أو هامشية في المجتمعات، كونها قادرة على اجتذاب «الكتل» الكبيرة مهما كانت جنسيتها. وفي رمضان، في شكل خاص، يتحوّل مركز التسوّق إلى مهرجان شارع متنقّل. ويحتمل التوصيف شيئاً من المبالغة، إلا أن الضخامة وسعة الحيّز اللتين يقوم عليهما هذا المركز تسمحان، واقعاً، بفعل التجوال. كما أن العروض التي تقدّم تشبه، إلى حد بعيد، تلك التي بالإمكان مصادفتها في مدن أخرى، تلعب فيها الشوارع أدواراً أكثر إغراء.
السيّدة التي تزيّن عربتها بفوانيس رمضان، وبالخواتم والعقود والهدايا التذكارية، اختارت لها مركزاً استراتيجياً في مركز التسوّق، ممرّ الزوار إلى عربات الأجرة حيث ينتظمون في صف طويل جداً، بينما يقوم موظفون بترتيب سيارات لهم أولاً بأول. في الانتظار، ينشغلون بتفقد بضائع السيدة الفليبينية. ولا تشتغل الإماراتيات بمهن البيع تلك، وإن كان في تاريخ دبي الحديث روايات كثيرة عن «سيدات سوق السمك»، وهن الإماراتيات اللواتي كنّ يبعن السمك في الأسواق، فيما أزواجهن يذهبون لصيده أو في رحلات الغوص بحثاً عن اللؤلؤ. وتذكر الوثائق التاريخية أن النساء اعترضن على قرار الشيخ سعيد بن مكتوم، حاكم دبي (1912-1958) بمنعهن، في فترة ما، من بيع السمك. وقد تظاهرن يومها حاملات سلال السمك بين أيديهن، حتى عاد الشيخ عن قراره بعد تدخل «الذكور» أيضاً. لكنّ هذه واقعة ترجع إلى أكثر من نصف قرن، تبدّلت الظروف خلالها وصارت المرأة الإماراتية تمتلك شهاداتها التعليمية ولا تبيع السمك وإنما الأسهم في أسواق البورصة والعقارات وميادين التجارة كافة.
راقص «التنّورة» لا يزال يدور حول نفسه، وفي الأثناء، يتحضّر مسرح «دمى الأطفال» الآتي من لبنان لعرضه «البطل الشامبليون»، في فسحة عند احد مخارج المركز، يفصلها عن موقف السيارات باب زجاجي يفتح ويقفل أوتوماتيكياً. اسم الصغير محمود ويرتدي «تي شيرت» عليها علامة «بات مان»، يقول انّ بيته في حلب ويعرب عن بهجته ب «البطل الشامبليون» الذي يلعب بأكياس الزبالة. هند من دبي، وبيتر من بريطانيا ينتبه للعرض ولا يفهم اللغة العربية. سميرة من فلسطين، عمرها ثلاث سنوات، تغطّس رقائق البطاطا في «الكاتشب» ولا تنتبه، في غمره تركيزها على العرض، أن نقاطاً حمراء تسيل على رقبتها. لا يحتاج الأمر إلى أكثر من بضعة أمتار مربعة من مركز تسوّق في دبي، حتى يكون لك جمهور عالمي من الأطفال والكبار.
منقول