- شينغ ماي (تايلند)
- تذكرة الدخول
- نساء الزرافة
- مقايضة المعتقد لأجل الحياة
شينغ ماي (تايلند)
بادئ ذي بدء كان التردد يسبغ تصرفاتي ويحول دون إتمام هذه المغامرة الشيقة والطريفة في آن واحد، والخوف مسيطر على كافة قدراتي في توجيه دفة إدراكي نحو مبتغى كتابة هذه المجازفة للأحبة القراء، لكن ما جعلني أشد أكثر وأصر على الانغماس في هذه المخاطرة غرابة ما لمسته من تصرف هؤلاء القوم الذين ينتمون لقبيلة الكارمن، والتي اتخذت من تايلند موطئ قدم لها وملجأ لها تلوذ به للفرار من آثار الحرب الأهلية الطاحنة التي دارت في بورما - ميانمار حاليا -.
الجزيرة التي كانت مقصدنا الأول في الجولة السياحية التي دشناها خلال العطلة الصيفية كانت جزيرة شينغ ماي التي تقع عند الحدود الشمالية من تايلند وقريبة من الحدود البورمية، لعل كتابة وتسليط شيء من الضوء على عادات وثقافة هذه القبيلة وما تؤمن به من معتقدات كفيل بان يزيل بعضا من الغموض الذي أثار فضولي، بل وأجبرني قسرا على دفع ضريبة التوغل في أعماق غابة هي مرتع لهم ولعوائلهم الموزعة على أنحاء متفرقة من القرية. كان مشوار الذهاب نحو هذه القبيلة طويلا استغرق فترة من الوقت نحو ساعة - وهذا الشيء غريب عن سكان أهل البحرين الذين اعتادوا أن يسلكوا ابعد منطقة في حدود الساعة نفسها - أول ما تلمحه عند الوصول ويقع عليه بصرك - عندما يدير السائق مقود الحافلة - طريق جانبي ترابي غير مبلط يخترق الطريق العام المسفلت وتتوغل الحافلة نحوه لمدة ربع ساعة سيرا عليه والذي تلتف حوله شجيرات الغابة. سألت السائق مستغربة: هل هنا تعيش تلك القبيلة؟ فقال لي جازماً ومومئاً برأسه: نعم!
منذ انطلاق الحافلة وهي متوجهة نحو هذه القرية التي تعيش فيها القبيلة ذات المعتقد الغريب، والفضول يتملكني، وعشرات الأسئلة التي تدور في خلدي، أين هم؟ وكيف لهم القيام بهذا؟ ولم يفعلون ذلك؟، إذ لعل وعسى تكون عيوني وسيلة تشبع نهمي وفضولي تجاههم. لمحنا الشارة واللوحة المكتوب عليها اسم القرية الذي يقع في جنب مدخلها مكتب دشنته الحكومة التايلندية يلزم على السائح دفع ضريبة الدخول نحو عالم هذه القبيلة العجيب والغريب الذي يشد فضول السائح لغرابته وجعلته مكسبا لجذب أنظار واهتمام السياح نحوهم بل ودفع ما مقداره نحو 500 بات لكل فرد بالعملة (التايلدنية) أي ما قيمته 5 دنانير بحرينية لأجل سبر أغوار عالم هذه القبيلة.
تذكرة الدخول
ترجلت من على الحافلة السياحية وطلب منا السائق ضرورة التوجه أولاً لدفع ثمن تذكرة الدخول نحو عالم هذه القبيلة، وكنا 3 أفراد أنا وزوجي وابنتي التي تبلغ من العمر سنتين ونصف، بعدما انتهينا من ضريبة الدخول اتخذنا من أقدامنا وسيلة نسلك خلالها عمق هذه القرية، ما تلحظه في البداية امرأة كبيرة في السن تدخن شيئا أشبة بالنارجيلة ولكن على هيئة عمود خشبي طويل وتضع حلقة على أذنها تخترق عرض مساحة الأذن، وكذلك يقع بصرك على منتوجات هذه القبيلة من أعمال يدوية نسجتها أيديهم الماهرة في صنع الأوشحة والحقائب الصوفية وغيرها من الصنائع اليدوية التي يعرضونها للسائح بغية كسب مبلغ ينتفعون به، انتهى الجزء الأول من القرية ومازالت القبيلة التي دفعت لأجلها تذكرة الدخول لم أرها بعيني، فقلت في نفسي ربما اختفوا أو هربوا وخدعونا بغية دفع الأموال. إلا إنني أصررت أكثر على التوغل نحو عمق القرية ربما اكتشف سر هؤلاء القوم، توغلت فوجدت مزارع الأرز منتشرة على جانبي الطريق والرجال ينتشرون بكثرة في المزارع والحقول ولا وجود للنسوة. واصلت المسير مشيا على الأقدام معي ابنتي وزوجي حتى لمحت عن بعد فتاة تبلغ من العمر نحو 8 سنوات - وهي المقصودة من كل هذه الجولة - إنها الفتاة ذات الرقبة الطويلة!
نساء الزرافة
نعم الرقبة الطويلة هي الثقافة السائدة والعادة الغريبة التي تتصف بها نساء هذه القبيلة نتيجة اعتقادهم بأن جمال المرأة في رقبتها التي تشبه رقبة الزرافة بطولها، وانه كلما حرصت المرأة على تطويل عنقها - في اعتقادهم - كان لها حظا أوفر بالزواج لذلك تسعى هذه القبيلة منذ أمد طويل على تناقل هذه العادة الغريبة وإلزام كل فتاة يتجاوز عمرها 5 السنوات بوضع حلقة حول عنقها وتزداد الحلقات النحاسية حول الرقبة كل سنة بالتوالي حتى يبلغ عدد الحلقات الملتفة حول عنقها نحو 25 حلقة كأقصى حد وتبقى المرأة مرتدية هذه الحلقات دون انفكاك عنها حتى الممات بل يصبح قدرها أن تتحمل الألم في وقت النوم والأكل والشرب والجلوس.
تحدثت مع إحدى النساء وهي منهمكة في حياكة وشاح بالطريقة التقليدية وهي تجيب على أسئلتي وتسرد ثقافة وضع الأعناق حول الرقبة قائلة «إن وزن نصف حلقة دائرية يقدر بنحو 2 كيلوغرام والحلقة الدائرية الكلية تزن نحو 4 كيلوغرام». تخيل نفسك واضعا حلقة تقدر بحجم طفل وليد يزن أربعة كيلو غرام حول عنقك.
نظرت تلك المرأة نحو طفلتي وهي تسألني كم عمرها فأجبتها بأنها تبلغ من العمر سنتين فاستغربت من دواعي سؤالها ولكأنها كانت ترمي من ذلك إلى القول إنه لو كانت في قبيلتنا هذه الطفلة واجتازت عمر 5 سنوات فان مصيرها يصبح كمصير بقية الأطفال الذين ولدوا على ثقافة توارثوها أباً عن جد دون وجود رادع ومنقذ يردعهم وينتشلهم من فعل الأضرار على أجسادهم لطالما هذه الثقافة متأصلة فيهم، ولكونهم يعيشون في مجتمع منغلق عن الاتصال بالعالم الخارجي الذي ينقل لهم مساوئ وأضرار هذه العادات والسلوكيات المؤذية على أنفسهم. بل الخيط الوحيد الذي يربطهم بالعالم الخارجي هي كاميرا السائح التي تلتقط كل ماهو مثير. الحمد لله على نعمة الإسلام.
ارتكاب الفاحشة لدى النساء في هذه القبيلة يندر وجوده لأن عقاب المرأة التي تزني هو إزالة هذه الحلقات من حول عنقها والذي اعتاد أن يستند إلى تلك الحلقات وعندما تنزاح هذه الحلقات فإن عضلة الرقبة تضعف وتصبح قدرة الإنسان على التحكم في رقبته ضعيفة كليا ويبقى مصير المرأة حينها رهين الأرض والتراب والجلوس طريحة الأرض أبد الآبدين، وان عقدت النية على تحريك جسدها قيد أنملة من على الأرض فإن مصيرها هو الفناء الأبدي.
مقايضة المعتقد لأجل الحياة
الحكومة التايلندية تستغل ثقافة هذه القبيلة الغريبة حتى تدر على جيبها أرباح السياح، الذين تثيرهم أسرار هذه القبيلة الغريبة، لأنه فقط وبمجرد دفعك لضريبة التذكرة يخول لك معرفة سر هذه القبيلة ويمكن لك أن تكتشف ما يحلو لك بل وتخترق عالمهم المخفي دون أية حواجز تمنعك كما انه يحلو لك عمل أي شيء فقط لأجل الحصول على مبتغى المعلومات الأكثر عنهم. تجد اللطافة والسماحة بائنة على محياهم والبسمة لا تفارق وجوههم رجالاً ونساء، والترحيب هي الصفة السائدة الموجودة لدى كل فرد من القبيلة ولكل السياح الذين يقصدونهم بغية الاطلاع على عالمهم، بشأن كيف يأكلون وكيف ينامون وكيف يقضون أوقاتهم في النهار في حياكة النسيج بالنسبة للمرأة وحراثة الحقول بالنسبة للرجل.
في نهاية المسير مشيا نحو عمق القرية تلمح هضبة ترتفع عن سطح الأرض ببضعة سنتيمترات تعلوها كنسية. سألت احد المرشدين السياحيين عن هذه الكنسية ومن الذي يتعبد فيها – مع العلم المسبق ان تايلند مملكة بوذية – فهل هي تتبع قبيلة الكارمن فأجابني أنهم من أصحاب الديانة البوذية بل الكنسية تخص أفراد قبيلة تسكن عند مدخل القرية بينما قبيلة الأعناق الطويلة يسكنون في نهاية القرية.
في ختام الجولة خرجت من هذه القرية ورأسي مليء بالشجب والاستنكار من التصرف والإجراء غير السليم والإنساني الذي يتعارض مع ابرز مواثيق ومبادئ حقوق الإنسان وحول الدواعي الحقيقية التي تكمن وراء إلزامهم على نقل هذه الثقافة لأجيال لم يعوا حقيقة ما يفعلون بل اجبروا طوعا على فعل ذلك دون تمحيص وتدقيق عوضا عن ذلك أنهم لا يجدون من بريق وانفتاح العالم الآخر سوى كاميرا السائح الفضولية.
بشكل عام تعتبر الثقافة في عرف علم الاجتماع جزءاً لايتجزأ من أخلاقيات وسلوكيات أي مجتمع ما، وتسهم بشكل كلي في التعريف بهوية وكيان أي مجتمع في الوجود، إذ إن المجتمع بلا ثقافة كالطير بلا أجنحة، لكن ما يعيب على مثل هذه الثقافة أنها ثقافة نقلها الآباء عن أجدادهم بعلاتها دون أن يدركوا المخاطر والأضرار التي تسبغ عليهم أذية أنفسهم، فقط قيل لهم إنها مظهر جمالي فتراهم ينساقون وراء هذا المعتقد من دون تفكير.
هذا هو حال الشعوب التي تنساق وراء ثقافة بعيدة كليا عن مفهوم الدين ولا ترتبط به وتجعله شيئا مقيدا ومنساقا خلفها ومتى ما سولت لأي شخص نفسه للخروج عن هذه الثقافة وكسر الطوق الملتف حول أعناقهم سرعان ما تجد أصوات النشاز تطلق هتافات واتهامات الكفر المبين... كفانا الله شر الثقافات والمعتقدات المضرة وألهمنا بنعمة العقل والبصيرة.