خوله حياتي
17-12-2022 - 01:24 pm
مضى وقت طويل لم تداعب أناملي القلم وتلك ضريبة التكنولوجيا التي جعلتنا نمسكُ بالهواتف الذكية
والتي تكادُ أن تلتهم كل معاني البساطة، فخاطبتُ نفسي ذات مساء وعاتبتها على
الجفاء الذي بدر مني تجاه القلم والأوراق.
هذهِ المرة أُريد البوح والكتابة دونَ ترتيب أو تنقيح
أريدُ أن تنساب المشاعر كالشلال بل كالسيول ، فأنا اكتبُ عن المغرب
و تدركون أنتم ماذا يعني المغرب لنا كعشاق ؟!
نافذةٌ على المحيط الأطلسي تطلُ منها حسناء غيداء
تلوحُ بيديها وتنثرُ خصلات شعرها على السماء
تغزلُ أبيات الغزل من آهاتِ العشاق.
تتفننُ في الوفاء و تتلذذ في الجفاء ، تقتلكَ بنظرة
ولا يُعلن عليك الحِداد !
و ليس لأحدٍ سواك عزاء..
إنها الحسناء البيضاء
إنها casablanca
الدار البيضاء..
قبل سنواتٍ مضت كحبات عنبٍ تتسابقُ إلى فم جائع
كنتُ ارتبكُ كُلما ذكرو المغرب أمامي ، وتأخذني الدهشةُ لأحاديث كبار السن
و بعض أبناء القرية.
لا اذكرُ بأني سألتُ أحدهم عن المغرب وما سرُ تلك الابتسامة التي تعلو ملامحهم حين ذكره
أو كنهوت الحزن المرتسم لحظة صمتهم بعد طول حديث عن المغرب.
كل ما أذكرهُ بأني عشتُ بجوار طفلٍ مغربي إبان حرب الخَليج
والذي كانَ والده يدربنا كُرة القدم في الصالات المغلقة ، حيث لم يتجاوز عمري العاشرة حينها.
كان اسمهُ " حَكيم" أما والده فهو " مصطفى " .
ما زلتُ اذكرُ تلك السحنة المتقدة التي تلتهبُ لحرارة الجو في الحَي
وتلك النظرات الحادة من والده أثناء ارتكاب أي خطأ في التمرين
و صافرات الانذار التي كانت تُطربنا " عبثاً " و ترعبنا داخلياً وتلك السُحب
التي امطرت عدة أسابيع "مطراً ملوثاً بالنِفط" في مدينتنا.
علاوةً على الجار " راشد " والذي استغربتُ حينها كيف يكون اسمه راشد وهو من " سوريا" !
تلك الطفولة الجَميلة التي لا تزالُ في الذهن تقتلنا كل حِين..!
ولا أخفي عليكم بأنه كان لدينا جيران بل إخوة من الكويت شاركونا كل شيء
و شاركناهم كل ما يخطر في بالكم من محبة وشقاوة ومقالب.
تحياتي لهم..
ضاحي..سلمان..أحمد مناور..
نعودُ للمعشوقة " الدار البيضاء"
وننثرُ الحَنين لمغربنا الجَميل..
لا أخفي عليكم بأني كنتُ منذ صغري أحبُ القراءة والكتابة كثيراً
وكنتُ أعشقُ بالذات " كتاب الأطلس" !
و أغرقُ في تفاصيل الدول من كافة الأصعدة ، فكنتُ أدونُ العواصم
و الجبال والأنهار و يشدني لون الصحراء والمسطحات الخضراء التي تُوضح بمفتاح الخارطة
بطريقة بسيطة للغاية.
أما الجنون الذي لازمني منذ تلك الفترة، شرائي لطائرةٍ ( مجسم طائرة) صغيرة
أقلعُ بها بين الدول على خارطة العالم، وكما تعلمون بأننا عاصرنا بعض المسلسلات الكرتونية
في ذلك الحِين وكنتُ من عشاق " السندباد" و " الرحالة الصغير".
أي جنون هذا
حينما وضعتُ الحرب أوزارها ، رحل الأشقاء إلى الكويت
أما حكيم و والده فسافروا إلى " كندا".
فسادَ الصمتُ والكآبة في حينا البسيط وبدت تلك العمارات البيضاء
كالقطرانُ في عيني.
يُتبع..
نمخرُ عباب الأيام ونتعلقُ بذكريات جديدة آملين تجاوز المحطات الحَزينة.
كانَ الحي جديداً نسبياً وكانَ مليئاً بالجنسيات المختلفة عرباً كانو أم عجماً
وكانت الشتاءاتُ رائعة للغاية، فنظرةُ من شُرفة " الشقة" تلك الأيام
تجعلكُ تشعرُ وكأنك في حلم أزلي لا ترغب الاستيقاظ منه أو قطعه.
حينما بلغتُ الثامنة عشر تعرفتُ على مجموعة أصدقاء في الكُلية، وكان ذلك الوقت
من يملك هاتفاً محمولاً فهو " مطنوخ" و أماراتُ النعمةِ عليه.
كنتُ أكتب بعض القصائد والخواطر على دفترٍ كبير نسبياً ، ذو تجليدٍ فاخر وأطراف ملولبة
وطريقةُ اغلاقهُ تشبه إلى حدٍ كبير آلية إغلاق الحقائب الدبلوماسية إن صح التعبير.
ما زلتُ اذكر المقدمة التي كتبتها على أول صفحةٍ جانبية
" لا يجوز نبش قبور الضُعفاء ولا العُشاق" ..
كُنا في الحصص الأولية لمادة الإنجليزي والتي درسناها في المراحل الإبتدائية والمتوسطة والثانوية بمدينة الجبيل الصناعية
نكتبُ تلك الأبيات ونرسم بعض الخربشات ونتباهى أمام الفصل.
إلا صاحبنا " محمد " النصراوي العاشق المتيم بالنصر السعودي وصاحبه " بداح "
الذي كانَ هاتفه المحمول مليئاً بالصور للمغرب..
كانَ يحدثنا عن رحلاته برفقة والده " غفر الله له ولجميع المسلمين"
كانَ يقول : أبي يقول بأنك لو عشقت البلد فلن تتخلص منهُ بالسهولة؛فإما الجُنون المُباح
أو المُحرم.
كنتُ أتوقُ لأحاديثه فترة الاستراحة ما بين الحصص، وكانَت سجائره تصاحبه كلما خرجت تنهيدة
عقّبها بأخرى.
ما بالك يا بداح ؟ أ تُريد حرق نفسك وقتلها ؟!
ابتسم قائلاً : لن تعرف العشق ولا الحُب حتى تطأ قدمك المغرب..
أما الزاوية في مؤخرة الفصل فكانت أشبه بمنطقة العمليات
و تخطيط المقالب، إنها الفوضى يا سادة التي تجتاحُ المراهقين أمثالنا..
أتت العطلة الصيفية وكنتُ على يقينٍ بأن بداح سيغادر مع والده إلى " المغرب"
فزرتهُ قبيل سفره وانتهاء الدراسة في غرفته بسكن الكُلية، لم يكنُ شاربه قد اكتمل على ملامحه
كانت سحنته الجنوبية هادئة للغاية وادعة تحملُ في تفاصيلها البراءة والفطرة السليمة.
عدا تلك السجائر التي صبغت شفتيه بالسُمرة وكأنها اللمى..!
بداح ، متى موعد رحلتكم ؟
بعد غد يا حبيبي بعد غد ، سأدعُ لك الصيف و مصائبه فاغنم كل دقيقة بالرطوبة
و اطلق ضحكته المدوية، وندبتُ حظي وسوءَ طالعي فما باليد حيلة ، سأكونُ مضطراً لإكمال الفصل الدراسي بإجازة الصيف
و على أقل تقدير سأنعمُ بأعلى الدرجات نظراً للفراغ الكَبير الذي سيكون في الفصل ، فلا ضجيج ولا مقالب ولا قصائد..
كم كنتُ متلهفاً لسماع أحاديثه بعد عودته أثناء الفصل الصيفي
كم اشتقتُ إلى المقالب والأحاديث البريئة والأحلام التي كانت كالوقود لتلك المرحلة.
عاد بداح بعد مضي الإجازة..
وعدنا إلى مقاعد الدراسة..
أتى محملاً بالهدايا والتذكارات
كنتُ أرمقهُ بنظراتٍ حادة ، وكأني طفل فقد ماله يوم العيد..
كان علم المغرب معلقاً على إزرار قميصه العُلوي ، سحبتهُ بكل فضول
فدفعني بقوة ، ثم شدني مجدداً فعبس مزمجراً : يا ويلك !
يتبع..