- https://artravelers.com
- الحلقة الأولى:
- طعام الفقير وحلوى الغني.... وزاد المسافر والمغترب
بسم الله الرحمن الرحيم
كنت قد وعدتكم في هذا الرابط بأني سأتحدث لكم رحلتي بعد ما أعود وها أنا أفي لكم.
https://artravelers.com
أحسست أنه لا بد لي من السفر إلى بلد تكون الإنجليزية هي اللغة الأصلية لساكنيه بهدف تطبيق ما أعرفه من مفردات هذه اللغة وتراكيبها، ولتعلم ما أجهله منها (وهو كثير). كانت الخيارات تدور حول بريطانيا وأيرلندا وأمريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا. كانت الأخيرة هي الخيار الأفضل، وكان اختيارها راجعا لعدة أسباب لم تجتمع في سواها، من أهمها أنها لا تشترط على الخليجيين تأشيرة لدخولها إن كانت المدة أقل من ثلاثة أشهر، والتأشيرة ليست مشكلة إلا من حيث كونها تتأخر وقد لا يحصل عليها الشخص لأسباب معروفة أو غير معروفة أحيانا. كذلك سمعنا بأنه لا مكان للعنصرية فيها ضد المسلمين، كما أنها بمنأى عن العالم ويتصرف سكانها كمن لا يهمه ما يجري وراء البحار. وأسباب أخر قد يرد بعضها فيما سيأتي من أخبار. وكان يفترض رد الجميل لهذا المنتدى أن يدعمه كل عضو بمشاهداته وطرائفه وببعض من ملاحظاته وانطباعاته حول تلك الرحلة. وها أنا أساهم مع زملائي في هذا التنوع من المواضيع.
الحلقة الأولى:
في البدء كانت لديّ فكرة عامة معقولة عن وجهة سفري من حيث الموقع والمساحة والسكان والتاريخ واللغة والمعيشة وما شابه ذلك. ولكن لأن من سمع ليس كمن رأى، فقد كانت الحقيقة مختلفة نوعا ما عن المتخيَّل.
انطلقنا من الرياض 11 مساء الجمعة على خطوط الكاثي باسيفيك الصينية (هونج كونج)، حطت بنا بعد تسع ساعات في هونج كونج، وصلنا نحو الواحدة ظهر السبت عندهم (الثامنة صباحا في السعودية)، بقينا نحوا من ساعتين صلينا فيها الظهر والعصر بشق الأنفس؛ لأنهم كلما فرشنا سجادتنا في زاوية ظنوا بنا شرا، ولكنهم لما تفهموا أمرنا تركونا وشأننا، ثم انطلقنا من جديد نحو وجهتنا، فوصلنا أوكلاند (شمالي نيوزيلندا، وهي ليست العاصمة) الساعة السادسة صباح الأحد بتوقيتهم، التاسعة مساء السبت بتوقيتنا (بيننا وبينهم في التوقيت تسع ساعات، وبيننا والصين خمس ساعات؛ ونحن نتجه شرقا). كانت شركة الطيران في غاية الدقة والنظام، وكانت المضيفات يقمن بواجبهن على أتم وجه، الوجبات والمشروبات لا تكاد تنقطع حتى إنك تعتذر عن كثير منها، كل راكب لديه كتيب فيه خياران أو أكثر لكل وجبة، اختر ما شئت منها، وكذا المشروبات، لكن الحق يقال أن الخليجي لا يستمتع بوجباتهم الشرقية على الأقل من لم يألفها من قبل، وكنا نتحاشى كل اللحوم عدا الأسماك. كل راكب لديه شاشة فيها قنوات فضائية متعددة، وفيديو يوجد به خمسة أفلام أو أكثر، كل يستمتع بما يحلو له؛ من شاء الأخبار والتحليلات (بالإنجليزية أو الصينية فقط)، ومن شاء الأفلام، ومن أراد متابعة خارطة الرحلة ومناطق مرور الطائرة.... والبعض يقضي معظم الرحلة نائما. الرحلة استغرقت 22 ساعة منها اثنتان في الأرض والباقي في السماء! وقيمة تذكرتها ( 5650 ) ريالا ذهابا وعودة. الغريب أننا سافرنا مساء الجمعة ووصلنا صباح الأحد ولم نصلِّ في هذا المدة سوى ثلاث مرات!.
عندما اقتربنا من أوكلاند كنا نطل من النوافذ لرؤية ضوء الصباح لكي لا يفوتنا الفجر ولكننا لم نر شيئا إلى أن هبطنا، كان ذلك مثار استغرابنا، إذ لا يعقل ألا يبدو الضوء (مجرد ضوء) حتى السادسة، في حين كان الفجر في الرياض يحين حوالي الثالثة والنصف!. طبعا كنت أظن نفسي ضليعا في الإنجليزية وأنه لم يتبقّ عليّ سوى وقت يسير للتطبيق في بيئة تتكلم اللغة بشكل دائم (وكذا قال لي بعض الزملاء عن أنفسهم أيضا). عندما نزلنا المطار أعطونا استمارات لنعبئها، كان بعضنا ينظر إلى بعض!، وكان منظرنا يثير الشفقة، بعد مشقة وعناء استطعنا التغلب عليها، لكن ذلك مثل لنا ضربة ارتدادية خطيرة. أشغلتنا تلك الأوراق عن الفجر الذي صليناه فيما أظن بعد الشروق! (الفجر هناك، في زمن وصولنا، كان يحين أذانه حوالي السادسة والثلث!). المطار كبير ولا تدري إلى أين تتجه، وفي النهاية،وبعد تفتيش دقيق، وجدنا مندوب المعهد بانتظارنا. كنا أربعة أو خمسة سعوديين لم نر بعضنا سوى في المطار. ركبنا في السيارة وكدت أركب مكان السائق لأن المقود عندهم في اليمين!، وتكون السيارات في الطريق عن يمين سيارتك كما هو الحال في انجلترا. قام السائق العجوز (والذي كان لطيفا ومرحا) بتوزيع الدارسين على العوائل التي من المقرر أن يقيم معها كل منهم، بالنسبة لي لم أكن قد اخترت عائلة للسكن عندها، فأخذني إلى سكن جامعة أوكلاند (University of Auckland)، السكن شبيه بالفندق، يمكن للشخص أن يستأجر فيه، وهذا ما فعله المعهد، فقد استأجر لطلابه فيه.
الأحد كان يوم الإجازة، ولذا استغللته في النوم والراحة بعد رحلة شاقة. من الطرائف أيضا أني حين وصولي السكن أخذت مفتاح غرفتي وذهبت إلى المصعد وكانت في الطابق التاسع عشر، فضغطت على رقم الدور إلا أن المصعد لم يتحرك! فكررت ذلك ولم يأبه لي، لم يكن هناك سواي فظللت أنظر إلى السقف والأرض والخارج والداخل دون نتيجة، استحييت أن أعود إلى الموظف لاعتقادي أن في الأمر سرّاً، ولحسن دخل طالب آسيوي، فصنع شيئا سمعت صوت رنين يسير تحرك بسببه المصعد إلى الأعلى، فلما تأملت مفتاحي وجدت به قطعة بلاستكية فيها مغناطيس مخفي يضعه الصاعد مقابل جهاز صغير فيتعرف عليه ويصعد به المصعد إلى الدور الذي توجد غرفته فيه فقط فلا يتجاوزه ولا يقصر عنه. وهذه خاصية يراد بها الأمان فلا يستطيع أحد الصعود إلى غرفتك دون علمك، وهي موجود لدى الفنادق الكبرى في السعودية وغيرها.
المشكلة الكبرى كانت في الطعام، ماذا تأكل، ومن أين؟ لحسن الحظ، كنت قد تزودت بكيلو تمر من الرياض، ورغم تشديدهم في التفتيش ومنعهم دخول الأطعمة منعا مبالغا فيه، إلا أن مفتش أمتعتي كان مسلما من أصول باكستانية، عرف سحنتي وسلم علي، ففرحت ورددت عليه، وسألني من أين أنا فأخبرته، فكاد يقبّلني، وقال إنه ذهب إلى مكة المكرمة، وسألني هل لدي مساويك، فرددت بالنفي وليتني كنت أملك شيئا منها، وأخبرني بأماكن الجوامع، ولم أفهمه جيدا لسرعته وضعفي في لغتهم السريعة. المهم أنه تغاضى عن التمر، وإن كنت سمعت فيما بعد أنهم يسمحون بكمية قليلة إن كانت مضغوطة داخل كيس بلاستيكي كما هو الشأن معي. كنت معجبا بقول الشاعر عن التمر:
طعام الفقير وحلوى الغني.... وزاد المسافر والمغترب
ولكني لم أتمثله جيدا إلا في أوكلاند، فكان التمر والحليب غذائي الوحيد إلى ظهر الاثنين. في الليل نزلت إلى صالة التلفاز والجلوس في الطابق الأرضي، ووجدت شابا فيه سمرة يسيرة وله لحية طويلة نسبيا، ظننته عربيا، بل سعوديا، ولكنه كان يتكلم مع شابة بولندية بطلاقة لفتت نظري، تحادثا كثيرا، وأنا أستمع إلى كل ذلك ولم أتفوه بشيء، وكنت حريصا على ألا أتكلم العربية إلا عند الضرورة القصوى، ولا أريد الاحتكاك بالعرب لأن مهمتي هي تعلم لغة أخرى. بعد طول حديث استأذنَت الفتاة وانصرفت، فتوجه نحوي الشاب وسألني من أين أنا، فلما أخبرته، ألقى علي السلام، وأخبرني أنه من السعودية أيضا، من مدينة جازان، متخرج من كلية الطب بجامعة الملك سعود. ثم ما لبثنا أن نقضنا القاعدة وقلبنا الحديث بالعربية!، ولما أخبرته برغبتي في اقتصار حديثنا على الإنجليزية لأننا جئنا لذلك، أخبرني بأنه لا يحب الحديث بها مع العرب!، وعن سبب طلاقته في اللغة قال: إنه بقي في أمريكا نحوا من سنة وأنه درّس بعض الطلاب الأمريكان العربية فاستفاد منهم أكثر مما استفادوه منه. على العموم كان الرجل ظريفا واستفدت منه إذ أخذني إلى المعهد (وكان طالبا فيه أيضا) لكي أستطيع الذهاب إليه صباح الغد لأداء لامتحان التقويمي، ثم عرج بنا على مسجد في الطريق، عبارة عن غرفة مستأجرة تفتح برقم سري، أيضا أخبرني عن الأشياء الرئيسية في البلد كالشوارع الرئيسة والمطاعم والأسواق وبعض المعالم... فشكرته. وفي اليوم التالي ذهبنا إلى المعهد، وكانت صدمتي كبيرة عندما اقتربت من ردهته الخارجية.
أرجو عدم إضافة أي تعليق أو سؤال في هذه الصفحة لتبقى متسلسلة، ويمكن فتح موضوع جديد للاستفسارات أو المناقشات حول الموضوع. وشكرا.
الحلقة الثانية:
(كانت صدمتي كبيرة عندما اقتربت من ردهته الخارجية...)؛ إذ وجدتني وكأنني أدخل إلى ساحة إحدى الثانويات العامة في مدينة الرياض!، ففي حجرة مفتوحة من طرف واحد باتجاه الشارع تقع في فناء المعهد، يتجمع العرب (السعوديون) بشكل أساس لكون الموضع يمثل فضاء مفتوحا يتيح نفث الدخان الذي صار علامة بارزة للطالب السعودي!. وكما قلت: فإن مفاجأة الدارس الجديد ستكون مذهلة إذ يحس أن ما دفعه من مال قد ذهب هباء لأنه إنما سافر من أجل أن يحل في مجتمع لا يسمع فيه لغة يفهمها؛ فيضطر إلى أن يفهم الآخرين ويُُفهِِمَهم عن طريق اللغة الجديدة. وهذا لن يحدث بالشكل المطلوب ما دام البديل موجودا؛ أعني متكلمي لغته الأم.وعلى أية حال فقد حاولت وغيري التغلب على هذه المشكلة محاولين عدم الاحتكاك بالعرب، إلا أن ذلك سبب لنا حرجا بالغا؛ إذ نظروا إلينا وكأننا نريد التعالي عليهم أو نستنكف عن مصاحبتهم. في نهاية الأمر لم نستطع المقاومة بسبب كثرتهم الساحقة، ولكي يتخيل القارئ هذه الكثرة يكفي أن يعرف أن المستوى الذي درسنا فيه أول وصولنا كان عدد الطلاب الأجانب فيه 11 وكانت نسبة السعوديين منهم 100% !، الظريف أن المدرِّسة نفسها تعرّبت!!، هذه ليست نكتة بل حقيقة؛ إذ تعلمت المعلمة من الطلاب بعض الألفاظ العربية كالنفي والإثبات وبعض عبارات الإعجاب وبعضا من العبارات اللطيفة التي تستخدم للمجاملات وصارت تستخدمها في القاعة أوعندما تقابل أياً منّا.
في الواقع استفدنا من العائلة (homestay) والحياة العامة في الشارع والمطاعم والأسواق والمواقع السياحية وما شابه ذلك... أكثر من استفادتنا من المعهد، وهذا لا يعني أن تدريسهم لم يكن جيدا، أو أن هناك نوعا من التلاعب، بل من أجل كثرة متكلمي العربية كما سبق القول، هذا عدا أن تدريسهم منهجي، وهو ما لم يكن ينقصنا؛ إذ التدريس في بلادنا جيد جدا، الذي كنا نحتاجه هو البيئة، وهي التي أفادتنا بحق. أما المعهد فالحق يقال إنهم كانوا في غاية الدقة والانضباط، مواعيدهم دقيقة بشكل يبعث على الإعجاب، تقيدهم بالدقائق منذ بداية المحاضرة إلى نهايتها يلفت الانتباه. مرة أخبرْنا المدرس أن الوقت انتهى، فنظر إلى ساعته وقال بقيت دقيقة واحدة ولا بد من إتمام الوقت للأمانة! وكثيرة هي المواقف المشابهة فيما يخص الوقت. أيضا كان لديهم احترام لثقافات الآخرين، وكانوا متسامحين معنا بشكل خاص، ربما لكثرتنا، ومن ذلك أنهم خصصوا لنا إحدى الحجرات لتكون مصلى نؤدي فيه الفروض اليومية، كما أن المدير أصدر تعليماته بأن لا نحاسب على الغياب يوم الجمعة (وهو يوم دوام) لمعرفته بأنه يجب علينا أداء الصلاة. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أننا معشر لعرب لم نكن (في مجموعنا) نمثل القيم والمبادئ التي يأمرنا بها ديننا وتحثنا عليها ثقافتنا، بل إن البعض كان يستغل تسامحهم يوم الجمعة فيقضي ليله في سهرات غير لائقة ثم يغيب يوم الجمعة، ليس للصلاة، ولكن من أجل النوم والاستعداد للسبت والأحد (weekend)، حتى إن أحدهم قال لي: إنه لم يحضر يوم جمعة واحدا طوال مدة إقامته هناك والتي زادت على الشهرين وربما الثلاثة!.
الحكايات المؤسفة التي تشوه صورتنا لدى الآخرين كثيرة، ولعل الكثير ممن ذهبوا هناك يعرفون نماذج متعددة منها، ولا أريد أن أضخمها أو أجعل من نفسي رقيبا على العباد؛ إذ إنني لم أكن بريئا تماما من هذا التشويه، كما أنه لا يحق لي ادعاء النزاهة، بل المخول بذلك هو من يعرفني، لأن كل من ذهب هناك وعاد سوف يدعي أنه كان سفيرا حسنا لبلاده وثقافته، إلا أن الآخرين قد لا يسلمون له بذلك. أيضا هناك فئة قليلة العدد تشارك في تشويه الدين من الطرف المضاد، إذ هم متطرفون بشكل مقزز يسعون لاستغلال الحريات الممنوحة للثقافات المختلفة، فهم لا يمثلون الإسلام السمح الذي يحترم الآخرين و يعترف باختلاف الديانات والمذاهب والاتجاهات، إذ الواجب على المسلم في بيئة كهذه أن يدعو إلى الله بأخلاقه وكرمه ومعاملته وتسامحه (أي بقدوته الحسنة)، أكثر من توزيعه صكوك الغفران على المسلمين وغيرهم. ولكن الموضوعية في المقابل تقتضي الإشارة إلى أن هناك بعضا من النماذج المضيئة التي تستوجب الاحترام، والتي لا يمكن تجاهلها فهي تمثل الوسطية الملتزمة بقيمها وتعاليم دينها بشكل لا يضر أحدا ولا يؤدي إلى لفت أنظار الآخرين الذين قد يتخذون مواقف ضدية إذا ما أحسوا أن هناك من يريد فرض ثقافة معينة عليهم. فلهذه الفئة جزيل الشكر ووافر التقدير.
ملاحظة: طلب مني مجموعة من الأخوة أن يكون التعليق على الموضوع في هذه الصفحة، لأنهم رأوا أن التعليق والمناقشة في موضوع آخر ليس عمليا، ونزولا عند رغبتهم فلا مانع من التعليق هنا ويمكن عند الانتهاء أن ننسخها وننقلها إلى صفحة جديدة أو تبقى هنا فالأمر متروك للإدارة عندئذ.