يتردد على آيسلندا نحو 300 ألف سائح سنويا، الجزيرة القطبية، البعيدة، الغارقة في عزلتها وهدوئها، بنشاطها البركاني المخيف، لكن، بمناظرها الفريدة على مستوى العالم.. بالأنهار الجليدية التي تشكل لوحات قديمة صنعتها الطبيعة عبر السنين.. بالبحيرات الباردة وكذلك بالينابيع الساخنة البركانية التي تشفي من أمراض عديدة، والتي تشكل جزءا مهما، من الحركة السياحية إلى هذه الجزيرة البعيدة. هذا العدد القليل من السياح، الذي تحبذه آيسلندا، لا يؤذي الطبيعة الخلابة لهذه الدولة التي يبلغ عدد سكانها ثلاثمائة وعشرين ألف نسمة فقط. دولة صغيرة لكنها خلابة.
لا يذهب إلى آيسلندا سوى المغامرين، أصحاب الأرواح المحبة لسحر الطبيعة وإمكاناتها النادرة والجبارة. اليوم، غالبية الذين يترددون على الجزيرة هم من كبار السن والمتقاعدين الذين يبحثون عن الهدوء والسكينة وكذلك عن الهواء النقي في كوكب تزداد يوميا نسب التلوث فيه.. النسب التي لم تصل إلى هناك بعد. فحتى العاصمة ريكيافيك تعتبر من أكثر مدن العالم نقاوة في نسب الهواء وكذلك من أنظف مدن العالم، وهذا في حد ذاته يمثل معجزة. لكن من ميزات هذه العاصمة أنها ليست هدفا في حد ذاتها للسياح، الذين لا يصلون إليها إلا ويتحضرون لمغادرتها، إلى الأماكن، الأكثر جذبا للسياح، مثل البراكين والينابيع الساخنة والأرياف القابعة هادئة في الشمال، التي تعبر عن الأصل الحقيقي للحياة على هذه الجزيرة، خاصة البيوت التقليدية الآيسلندية، التي عادة ما تكون متوائمة مع الطبيعة ومغطاة بالعشب الأخضر، الذي لا يفارق الجزيرة لا صيفا ولا شتاء، وهي الأعشاب أو الحشائش التي لا تعلو كثيرا عن الأرض، كما أن الجزيرة كانت خالية تقريبا من الأشجار، التي قطعت في أزمنة سابقة لاستخدامها في التدفئة والبناء، وهي اليوم تعود بنسب قليلة، حيث لا يمكن أن تنمو بسهولة بسبب قشرة التربة البركانية الرقيقة التي تغطي البازلت القاسي. وكذلك لا يمكن لأي نوع من الأشجار أن يعيش هنا. مع هذا، فإن المناخ الآيسلندي أقرب إلى المعتدل على الرغم من قربها من المحيط المتجمد الشمالي.
سكن البشر آيسلندا منذ اثني عشر قرنا، وتشير المراجع التاريخية وما يسمى كتاب الاستيطان (لانتاومابوك) إلى أن المغامر والزعيم النرويجي أنغولفر أرنارسون هو أول من أقام عليها بشكل دائم في عام 874م، في حين أن مغامرين كثرا، في ذلك الوقت، كانوا قد زاروا الجزيرة وأقاموا عليها طوال فصل الشتاء، لكنهم عادوا إلى بلادهم لعدم قدرتهم على تحمل المناخ البارد والقاسي شتاء، حيث تستقر درجات الحرارة عند الصفر معظم أشهر السنة، في حين أنها في الصيف القصير لا تتجاوز العشر درجات فقط. كما أن المناخ بارد شتاء لعدم سقوط الأمطار بغزارة. فالشتاء جاف وبارد مع رياح قوية في الشمال الغربي تحتم على من يقيم هناك تحمل هذا النوع الخاص من المناخ.
ويروي هاتلو جيفرسون، وهو مغامر نرويجي جاء إلى الجزيرة في عام 1132م، بحسب الموسوعة الفرنسية، أن «الطقس هنا لا يطاق، فلا أمطار ولا ثلوج، بل برد قارس لا يمكن حتى للقادم من شمال العالم تحمله». كما أن الجزيرة «فارغة من السكان والحيوانات إلا بعض الطيور الغريبة التي لم أشاهدها من قبل، كذلك فإن السكان هنا يعانون الوحدة وهم يتجمعون في أماكن قريبة من الشواطئ التي وإن كانت تبدو جميلة فإنها خطرة بصخور مسننة ورمال بحصى لونها أسود هي ما بقي من براكين خمدت». ويضيف جيفرسون «الأسابيع التي قضيتها هناك، متنقلا بين القرى البعيدة عن بعضها بعضا، كانت أياما جميلة لأنها دوما كانت توقفني على حافة المخاطرة بالحياة، صحيح لم أجد الكثير من الحيوانات، لكن هذا وحده كان دليلا على انعدام الحياة في بقع كثيرة على الجزيرة».
وفي شهادة أخرى لنرويجي سكن الجزيرة منذ عام 1344م حتى 1347م هو غاندولف ماكفيغسون يقول «كانت السنوات الثلاث التي قضيتها بالقرب من الشاطئ الشرقي سنوات قاسية جدا، الطبيعة هنا وإن كانت مستقرة، وهذا ما يعطيها جمالا أخاذا، فإنها صعبة.. والناس هنا يعيشون على الصيد وتربية المواشي حيث كانت فرصة نادرة أن أشاهد الحصان الآيسلندي بشعره الطويل الذي في أحيان كثيرة يصل إلى الأرض ويجره خلفه». ويضيف ماكفيغسون «بعد السنوات الثلاث هنا، كان علي العودة إلى الحضارة التي جئت منها، فالحياة على هذه الجزيرة تحتاج لأصحاب القلوب الصبورة التي لا تعرف الملل».
شهادتان ربما تبينان الحياة الأولى على جزيرة آيسلندا. فالحياة التي بدأت مع المغامر النرويجي أرنارسون، ومن تبعه من مجموعات بشرية قليلة، آثرت الصبر على حياة بمقومات بسيطة، والعيش في مواجهة الصعوبات والظروف المناخية. وهي حياة كانت تعتمد على ابتكارات الطرق من أجل الصمود في مواجهة كل شيء. لقد كان النرويجيون وبعض الجماعات الغالية أول من ذهب إلى هناك، فآيسلندا التي هي اليوم دولة مستقلة لديها علم ونشيد وطني وبرلمان ورئيس، كانت منذ عام 1262م وحتى عام 1918م جزءا من المملكة النرويجية والدنماركية. بعد هذا عاشت الجزيرة حركة استقلالية استمرت منذ عام 1918م وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية 1944م، ثم أخذت استقلالها وهي أصغر دولة في حلف الناتو. كما أنها تشترك مع سويسرا في أنها بلا جيش، بل مجرد قوات شرطة عادية وحرس حدود. وهي طوال الحرب الباردة كانت في حماية قوة عسكرية أميركية لم يعد لها وجود على الجزيرة بعد عام 2006.
من الناحية الجغرافية، فإن آيسلندا «أرض الجليد» كما هو معناها بالعربية، أرض تشكلت حديثا نسبيا من خلال الاحتكاك الذي حصل بين الشرائح التكتونية. ولهذا فهي جغرافيا لا تنتمي لا إلى القارة الأميركية ولا إلى أوروبا، بل هي تقع فعلا على النقطة الفاصلة بين القارتين جيولوجيا. لكنها تنتمي إلى أوروبا سياسيا وتاريخيا بفضل الانتماء الأساسي للسكان، الذين تعود جذورهم إلى النرويج والدنمارك والسويد. غير أنها اليوم تضم خليطا من شعوب متعددة ولا يمكن النظر إلى أن لآيسلندا سكانا أصليين سوى حين النظر إلى جذورهم وأسمائهم.
جغرافيا أيضا، يميز آيسلندا وجود براكين عديدة لا تزال عاملة، وهي تنفجر بمعدل مرة كل خمس سنوات. ولكثرتها بين كبير وصغير فإن الانفجارات البركانية دائمة على الجزيرة. لكن أكبرها كان بين الأعوام 1783م و1784م، حيث أدى تفجر بركان لاكي إلى مجاعة أودت بربع سكان آيسلندا وهجرة أكثر من النصف، وأحدثت غيمة سوداء بقيت تغطي سماء أوروبا لعدة أشهر. وفي عام 2010 أدى ثوران بركان «آيافيالايوكول» إلى إحداث غيمة عطلت حركة الطيران في كل أوروبا. مع هذا تعتبر البراكين الآيسلندية متعة حقيقية للنظر. كما أنها سبب البقاء لهذه الجزيرة التي تدين بوجودها للبراكين. وفي العصر الحديث تعتبر جزيرة سرتسي التي تقع قبالة شواطئ آيسلندا، أحدث جزيرة في العالم حيث نتجت عن انفجارات بركانية امتدت لخمس سنوات منذ عام 1963 وحتى عام 1968. وهي المكان الوحيد في آيسلندا الممنوع من الزيارة من قبل السياح. فقد خصصت الجزيرة للأبحاث العلمية مند نشوئها حتى اليوم.
بقيت آيسلندا، حتى اليوم، بعيدة عن الهجرات العربية الكثيفة إلى أوروبا والأميركيتين. وبحسب معلومات إدارة الهجرة والمسح السكاني الآيسلندي، فإن العرب الموجودين كمهاجرين في الجزيرة لا يمكن وضعهم وشملهم إحصائيا، حيث إن رقمهم لا يتجاوز العشرة أشخاص. في حين أن الصينيين يمثلون 15 في المائة من عدد السكان بحسب إحصاءات العام الماضي. كما لا يُعرف أن هناك عربا يقومون بزيارة الجزيرة للسياحة. ولم يكتب عن الجزيرة حتى اليوم أي مقال يؤكد زيارة شخص عربي إليها، في حين تمتلئ الصحف الفرنسية بكتابات عنها، قام بها أشخاص عاديون أو صحافيون محترفون خصوصا بعد حادثة البركان في عام 2010. فقد اكتشف الأوروبيون أن هذه الجزيرة القريبة جدا (1000 كيلو متر تقريبا) من حدود النرويج، تشكل أكبر خطر على حركة التجارة والطيران. ولو كان الانفجار الأخير للبركان شبيها لانفجار القرن التاسع عشر، لخسرت القارة الأوروبية المليارات، ولكانت شلت الحركة التجارية فيها لأشهر عدة، كما أن الخطر على المزروعات تفوق نسبته أي خطر آخر، حيث ستقف الحضارة عاجزة خائبة مشلولة مدمرة أمام قوة بركان بسيط في عرض المحيط.
تسعى السلطات الآيسلندية وشركات السياحة العالمية الكبرى إلى المساهمة في تعزيز السياحة باتجاه الجزيرة. ويعتقد البعض أن الرقم الحالي ثلاثمائة ألف سائح سنويا يمكن رفعه إلى مليون، غير أن هذا قد يؤدي إلى تدهور المناظر الطبيعية وبعض المرافق المهمة الأكثر جذبا للسياح مثل برك المياه الساخنة الطبيعية التي تعتبر كنزا سياحيا حقيقيا، وكذلك بعض المراعي التقليدية الخضراء التي تحوي بعض الحيوانات الأصلية مثل الحصان الآيسلندي والخرفان المحلية التي جلبت من النرويج قبل ألف عام، وتأقلمت مع البيئة هنا، ويعتبر لحمها من أفضل اللحوم على مستوى العالم. فقد أدى الحديث عن هذه الطموحات الحكومية المتضامنة مع الشركات إلى نقاش كبير بين المواطنين أدى إلى رفع الصوت عاليا للحد من تدفق السياح بأعداد كبيرة.
كونها بلد بقوة استيعاب تصل إلى حدود ثلاثمائة ألف زائر سنويا، فإن آيسلندا تضم مجموعة كبيرة من الفنادق بمختلف الدرجات. كما أن أسعار الفنادق سواء في العاصمة أم في المدن الأخرى وكذلك الأرياف البعيدة في متناول الجميع، إذ من الممكن أن يصل سعر غرفة في الموسم في فندق أربعة نجوم إلى مبلغ لا يتجاوز 75 يورو، وهو مبلغ معقول إذا تم احتساب أن تكاليف السفر إلى آيسلندا مرتفعة نسبيا. كما أن الزيارات الخاصة الليلية التي تتم لمشاهدة الشفق القطبي في شهري فبراير (شباط) ومارس (آذار) تتم بمبالغ زهيدة نسبيا، وهي مجانية للأطفال دون الحادية عشرة من العمر. ويعتبر الدخول وتمضية يوم كامل في المياه الساخنة في أجمل المنتجعات الطبيعية والمفيدة للصحة من أرخص ما يمكن وجوده حيث يبلغ ثمن تذكرة الدخول إلى المنتجع 22 يورو فقط، وهو مبلغ جدا زهيد في مقابل الخدمات التي يقدمها سواء على المستوى الصحي أو على مستوى المتعة.
إن هذه الجزيرة الساحرة بمناظرها الطبيعية ونوعيات الأزهار والطيور التي تعيش فيها، متعة للنظر والعيش لأيام قليلة، لا أكثر. كما أنها من أقل البلدان على مستوى العالم التي تعيش فيها الحشرات، فمن بين أكثر من ثلاثة ملايين نوع من الحشرات تعيش في العالم يوجد في آيسلندا ألف وثلاثمائة نوع فقط، مما يعني أن وجود الحشرات نادر تقريبا. وهذا في حد ذاته يعد ميزة لا يمكن وجودها في أماكن كثيرة من العالم. كما أن من ميزات هذه الجزيرة الهدوء التام الذي من الممكن أن يمارسه أي شخص، حيث لا منغصات ولا ضجيج ولا حتى صراخ، ويمتاز الشعب هنا بالصمت إذا لم يكن من حاجة للكلام.
.. جريدة الشرق الأوسط ..