محيرني النقل
24-11-2022 - 08:37 pm
من يزور اسطنبول في هذه الأيام يُفاجأ من الاهتمام المبالَغ فيه بزهرة اللالة/ التوليب وبأنواعها المختلفة ونشرها في الساحات العامة ووسط وجانبي الشوارع والحدائق ودوائر الدولة والدور السكنية،
وكأن كل هذه الأماكن تتنافس فيما بينها في لفت الأنظار إليها بإبراز هذه الزهور وتنسيقها وتنويع ألوانها البديعة الزاهية.
وهذه الزهرة التي يعود أصلها إلى أواسط آسيا لها مكانة خاصة في الأدبين الفارسي والتركي وقد تغنَّى بها الشعراء والكتّاب منذ القدم، وغدت الزهرة المفضلة عند العوائل الراقية، حتى تسمّوا بها،
بل نالت إعجاب أحد رجالات الدولة العثمانية وفُتن بها إلى حد الجنون حتى أُطلق على العهد الذي عاش فيه «عهد لالة». كما أصبحت التسمية المفضلة عند العوائل الراقية.
في 23 أغسطس سنة 1703م تولى أحمد الثالث عرش الدولة العثمانية. وعُرف عن هذا السلطان أنه يكره الحروب، وكان قد ذاق طعم اللهو والترف قبل توليه السلطنة وكان مغرما بالفن والزهور والحدائق، إلا أن الظروف التي مرت بها الدولة خلال السنوات ال15 الأولى من حكمه فرضت عليه أن يتصرف ضد رغباته. ولكن وبعد أن أبرم معاهدة مع خصمه اللدود ملك النمسا سنة 1718م قلّد صهره إبراهيم باشا الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء). وكان هو الآخر ينبذ الحروب ويعشق السلام ويميل إلى الترف. فشهد هذا العهد وبفضل الصدر الأعظم فعاليات الاعمار والإصلاحات المختلفة، كما انفتحت الدولة على الثقافة الأوروبية. فقد أقيمت أول مطبعة في هذا العصر، وأُسس معمل للورق واتخذت التدابير اللازمة لتطوير الفنون المحلية. كما أُقيم مصنع للخزف في مدينتي إزنيق وكتاهية.
وأقيمت في اسطنبول وفي أماكن مختلفة منها مبانٍ وقصور مختلفة، كما تم تطوير بعض الأماكن في اسطنبول لتتحول إلى متنزهات يرتادها عشاق الترف واللهو. وأوفد الصدر الأعظم أحد رجالات الدولة وهو محمد أفندي الجلبي إلى باريس لعقد اتفاقية مع فرنسا. وبعد عودته (1721م) ذكر له ما شاهده في باريس..
وتأثر الصدر الأعظم كثيرا بمفاتن باريس كأنه شاهدها بأم عينه.. فأولى اهتماماً بأحد أحياء اسطنبول وهو «كاغد خانة» وقام بتطويره حتى أصبح في غضون فترة قصيرة محط إعجاب الزائرين، وبنى فيه قصراً فخماً أطلق عليه اسم «سعد آباد» وأصبح جمال هذا القصر وروعته على كل لسان، واستغرق بناؤه ستين يوماً فقط. وغرس فيه أربعين شجرة برتقال أهداها إليه السفير الفرنسي في اسطنبول، وافتتح السلطان بنفسه هذا القصر في 21 يوليو سنة 1722م في احتفال مهيب. ولم يكتفِ إبراهيم باشا ببناء هذا القصر،
بل ألحق به مجموعة من المباني المختلفة الفريدة من نوعها، وقد أخذت منطقة البسفور نصيبها من حركة الإعمار هذه. وكانت المباني والقصور التي بُنيت في هذا العهد تطل على حدائق غناء. أما الزهرة المفضلة فيها فهي زهرة اللالة/ التوليب التي غدت -منذ القرن السادس عشر- إحدى الزهور التي لا يمكن الاستغناء عنها في الشعر التركي وفي فن الزخرفة التركية.
ورغم الاهتمام الذي حظيت به منذ القرن 16م فإن هذا الاهتمام لا يقارَن بما حظيت به في عهد السلطان أحمد الثالث. فعند حلول الربيع في هذا العهد تكون اسطنبول قد اتشحت بوشاح اللالة/ التوليب فأينما تتوجّه الوجوه تجد الزهرة أمامها.. في الحدائق وفي السنادين الموضوعة على نوافذ الدور وفي المحلات المختلفة.
وكان الصهر الباشا مغرماً باللالة/ التوليب إلى حد الجنون، حتى إنه أنتج نوعاً جديداً منها أطلق عليه اسم «آصفى». وشجَّع التجار على استيرادها من كل حدب وصوب، فأصبحت تنهال إلى اسطنبول أنواع مختلفة منها. ولكي ندرك كيفية إحاطة هذه الزهرة بالمجتمع في هذا العصر يكفي أن نذكر أنه تم إنتاج أكثر من ألف نوع جديد منها. فالكل كانوا يسابقون الزمن وبحماس شديد وينافسون بعضهم بعضاً من أجل إنتاج نوع جديد من هذه الزهور أو التفنن بتنسيقها بشكل يبهر الناظرين.
حتى إن بعض المغرمين بها غدوا يتجولون في أسواق الزهور علّهم يجدون نوعاً نادراً منها ويدفعون مبالغ طائلة من أجل الحصول عليه حتى يقترفوا مخالفات من أجل ذلك.. ولهذا ازدادت أسعارها وبلغت حدوداً غير معقولة، لاسيَّما بعد أن قام التجار باحتكار بعض أنواعها. الأمر الذي دعا إبراهيم باشا إلى التدخل للحد من الاستغلال ومعاقبة المستغلين، فأصدر أوامره بحصر أنواع الزهرة وأجناسها في كل حديقة وعند كل تاجر وذلك بتسجيلها في سجلات خاصة،
ووضع لكل نوع منها سعراً خاصاً به. كما اتخذ إجراءات صارمة بحق كل من يخالف تسعيرة الزهرة، وبلغت هذه الإجراءات حد مصادرة الزهرة من قِبَل الحكومة ونفي أصحابها! وكيف لا إذا علمنا أن بعض أنواعها كان يباع أحيانا بألف ذهب. ولهذا راجت تجارة الزهرة في اسطنبول وأصبحت تضاهي تجارة المصوغات الذهبية.
يُروى أن أحد السفراء الأجانب في اسطنبول جلب إلى المدينة نوعاً جديداً من هذه الزهرة أطلق عليه اسم «تاج القيصر» وكانت هذه الزهرة مميزة من حيث اللون والجمال، وصادف أنها فُقدت أو سُرقت، ووصل خبرها إلى الصدر الأعظم إبراهيم باشا فأخرج رجاله يبحثون عنها في كل حدب وصوب ولكن من دون جدوى.. ومَن يدري؟! فقد حظي بها أسعد مخلوقات الله على وجه المعمورة!
المعروف أن عهد أحمد الثالث الذي شهد جنون زهرة اللالة سُمي في التاريخ العثماني ب «لالة دوري» أي: عهد لالة وتميز بمظاهر الترف والبذخ التي لم تعرف حدودا. ولكن هذا العهد انتهى بنهاية مأساوية راح ضحيتها الصدر الأعظم إبراهيم باشا نفسه (1730م).
بقي هنا أن نقول إن السلطان العثماني سليمان القانوني أهدى مجموعة من زهرة اللالة إلى ملك هولندا، ونالت إعجاب هذا الملك بشكل كبير، ولهذا لم يمر وقت طويل حتى حظيت باهتمام الهولنديين ومن ثم الأوروبيين، وأصبحت هولندا منذ ذلك الوقت أكثر دول العالم إنتاجاً لزهرة اللالة/ التوليب.
للامانه
عدسة محيرني النقل
والتعليق منقول بتصرف في بعض الفقرات والقصص والاحداث
وتصويرك اروع ايش نوع كاميرتك اخوي ؟
يعطيك العاافيه